الخيال
الخيال هو قوة تتمثل صور ، نوع معين من الاحساسات ( بصرية ، سمعية) أو مجموعة مركبة من الصور . وقد عرّفه لالاند بأنه " قوة تركّب الصور في لوحات أو تتابعات مقلدة لوقائع الطبيعة، إنما لا تمثل شيئا ً واقعا ً موجودا ً " .
في اللغة الشائعة ، يسمى الخيال هذه القوة التي يمتلكها الذهن لخلق شيء جديد ، أو للهروب من الواقع ومن الحاضر . سارتر رأى في الخيال الوظيفة الكبرى المبعدة عن الواقع التي لا يمتلكها الوعي. أما برادين فقد رأى أن الخيال هو نشاط ذهني ويعني أن نخلق صورا ً تكون بديلا ً عن الاشياء المدركة، هروباً من الواقع أو نتيجة إحساس فني أو تحقيقا ً لرمزية تخريفية أو تمثيلا ً لشيء.
عندما يتخيل الانسان ، فانه يستعيد صورا ً ، هذه الصور ، حسية كانت أم ذهنيىة ، هل هي موجودة فينا؟ أنستعيدها كاملة كما كانت، أم مختلفة بعض الشيء، أم جديدةً كليا ً ؟
في موضوع الخيال اختلفت آراء علماء النفس :
• منهم من رأى فيه "إعادة تصوير" مرتبطة بالادراك الحسي وبالذاكرة : "الخيال المستعيد "
• imagination reproductrice))
• ومنهم من رأى في الخيال "عملية خلق وإبداع " لا علاقة للادراك الحسي بها imagination créatrice) (
ولكن ألا يمكن القبول بواقع أن هذين الطابعين للخيال يشكلان معا ً تعبيرا ً لمتطلبات الانسان الباحث عن إستقلالية ذاتية ، عن حاجة عند الانسان ليحدد وجوده من هذا الجسد الذي يمكنه التأكيد على وجودنا ؟
-Iطبيعة الخيال
• النظرية التجريبية :
لا ريب في أن النظرية التجريبية (الامبيرقية) هي الاشهر في تعريف وتحديد صورالمحسوسات . إنها النظرية الأساسية التي مهدت الطريق لعلم النفس الاختباري . فاذا كان الفلاسفة التجريبون يؤمنون أن الانسان يولد صفحة بيضاء وأنه يستحيل أن تكون لديه عند الولادة أية صور أو أفكار أو مفاهيم أو معارف سابقة للتجربة الحسية (a priori). فإنهم بالتالي يؤمنون بالاكتساب : أي بحصول المعارف والمبادئ والمعقولات والصور بعد التجربة الحسية ( a posteriori) ومن أبرز دعاة هذه المدرسة لوك وهيوم وباركلي وكوندياك.
يقول جون لوك في نظرية إكتساب المعرفة : " العقل يولد لوحاً أبيضاً، كل المعرفة إنما تحصل بعد التجربة الحسية. انني أتحدى أي امرئ فد يجزم لي أن الأنسان الذي ولد أصم يستطيع أن يُكوّن صوراً صوتية سمعية أو أن يعرف الاصوات ويميزها. كذلك الأمر بالنسبة الى الانسان الذي ولد كفيفا ً ، فهو عاجز عن تكوين صور بصرية . الإنطباعات الحسية هي صلب المعرفة والصور والافكار " .
هذا وقد ميز ديفيد هيوم بين الإنطباعات ( أي الإدراكات الحسية والأفكار التي هي عينها صور المحسوسات، وأي صور باهتة ضعيفة للإنطباعات هي بقايا أو آثار الإنطباعات ) ، هذه الصور تعلق في الفكر على شكل بقايا وذلك بعد غياب المحسوس . فكأنما الصور بالنسبة للتجربيين ، هي نفسها المجردات والمعقولات وحتى الذكريات .
فالخيال إذن هو إعادة انتاج للمحسوسات الواقعية المادية الملموسة إن الصورة الذهنية هي إعادة تمثل الفكر لما أدركه البصر ، إنها تكرار عقلي مخفف وأقل تميزا ً لإحساس أو بالاحرى لإدراك حسي سابق .
نقد وتقويم
1- إن اعتماد معيار القوة والوضوح كفارق بين الادراك الحسي والصورة الخيالية (التي هي أقل قوة ووضوحا ً من الإدراك الحسي) ،قابل للنقاش:
أ- إن إدراكنا الحسي لشيء بعيد يكون عادة ًضعيفا ً ، فهل يمكن الجزم في هذه الحالة أننا نتخيل ولا نرى بالفعل ؟
ب- في المقابل أيمكن إعتبار الصورة الخيالية التي تشكل هاجسا ً عندنا لكثرة ما نفكر بها ( صورة الحبيب) والتي تتماثل أمامنا في كل لحظة بقوة ووضوح, بأنها إدراك حسي وليست خيالا ً ؟
2 – نقد آلان ( Alain ) : لا وجود على الاطلاق لصورة ذهنية . التخيل هو إدراك حسي فقط . أحد أصدقاء آلان كان يدّعي القدرة على تخيل البانتيون (Panthéon) : يراه تماما ً كما لو أنه أمامه . لكنه في الحقيقة قد عجز عن عد ّ أعمدة هذه الكنيسة عندما طلب منه ذلك . فالخيال بنظر آلان هو معرفة مرسومة بحركات الجسد وهو بذلك أكد على هيكيلية الصورة .
آلان هو من أتباع المدرسة التعقلية ، فقد أنكر وجود الخيال جملة وتفصيلا ً . " إننا نتوهم أننا نتخيل " .فماذا يقصد بذلك؟ إن صورة المحسوس غير كاملة (مهما كان خيالنا فذا ً ونشيطا ً وثاقبا ً ) ، إنها مشوهة ومنقرضة ، ولا يمكن تفحصها أو إختبارها أو برهانها، لأنها فعلا ً غير موجودة . إذن كل خيال وهم . يقول لي أحدهم : " في ذهني صورة عن بيت ٍ أريد أن أشيده " فأرد عليه :" صورتك لا معنى لها . شيّد البيت ليكون موجودا ً" .
3 - نقد هوسرل (Husserl ) : أما هوسرل أكد على هدفية الوعي المتخيِّل وقصديته . فالمدرسة الفينومينولوجته تعتبر أنه لا وجود لصور ذهنية داخلية : الوعي ليس سلبيا ً ، ليس حاويا ً للصور ، بل إن الوعي هو فعل هادف الى شيء : " كل وعي هو وعي لشيء ما ، لشيء خارجي " ليس هناك صور خيالية في الوعي ، بل هناك وعي متخيِّل ، يقصد موضوعه الذي هو خارج عنه . الخيال قصدي ، توجهي من الوعي" .
4- نقد سارتر (sarter ) :
جاء موقف سارتر متأثرا ً بآلان (التعقلي ) وهوسرل(الظواهري) . يؤكد جان بول سارتر أن "التخيل ليس إدراكا ً لأنه يحدث اثناء غياب الشيء الذي نتخيله " . أثناء عملية الادراك الحسي ، نستطيع أن نغني معرفتنا لأننا بفضل أدوات الحس نقوم : بلمس،بمشاهدة ، بسماع، بتذوق، بشم الشيء ، من زواياه المختلفة. أما أثناء التخيل فإن الصورة تطالعنا مباشرة من المرة الاولى . وهي في جوهرها فقيرة .
وهنا يمكننا طرح الاشكالية التالية: إذا كان التخيل شكل من الاعتراف بغاب الشيء ، فهل يمكن اعتباره نوع من العلم ، من المعرفة؟
يجيب "سارتر" بنفسه على هذه الاشكالية التي طرحها على نفسه : " التخيل ليس علما ً معرفيا ً لأنه لا يعتمد على التفكر. في غياب الشيء ، أبني معرفتي على أفكار مجردة،غير محسوسة أي على مفاهيم وليس على حقائق".
التخيل هو التفكر في الشيء بوصفه غير موجود أمامنا، أي بوصفه عدما ً . فالتخيل هو "إعدام الشيء" . إنما لا بد في التخيل من مادة للعبور الى المتخيَّل . هذه المادة هي الشبيه للمتخيَّل analogon)). فالصورة الفوتوغرافية هي الشبيه الذي يعبره وعينا لنتخيل من ترمز إليهم . غير أن هذا لا يتم إلا إذا "أعدمنا" الصورة كجسم مادي (الورقة والاطار) واخترقناها لنصل الى الرمز المتخيَّل. هذه النظرية لسارتر ، شرحت جيدا ً التمييز التلقائي بين الواقعي والخيالي . لكنها لم تفسر الإلتباس الذي يمكن أن يقع بين الواقعي والخيالي كحالات الحلم الليلي.موقف سارتر عند هذه النقطة يبدو مبالغا ً في مثالييته، بالنسبة إليه الوعي يعتبر نفسه حالما ً ومهذيا ً .. رغم ذلك فإن للحلم نشاط قصدي ووظيفة للتعبير عن رغبة لا واعية وعن ميول أو أنه حارس للنوم...
II- دلالة وقيمة الخيال :
إذا كانت النظرية التجريبية تعتبر أن الخيال يعود بالتحديد الى الادراك الحسي . لكننا نتساءل : أليس ذلك بالعكس ؟ أليس الادراك الحسي هو بالذات الذي يعود للخيال ؟ لأنه لا ندرك العالم كما هو ، فالغابة على سبيل المثال لا تدرك بنفس الطريقة بالنسبة لعالم النبات ، والهارب والرسام والعاشق، الذين يتنزهون فيها، فكل واحد منهم يراها بحسب رغباته وتطلعاته، واهتماماته...
عند التجربيين : الفكر ينطلق من الواقع حيث الخيال ليس سوى صورة ضعيفة وبقايا ادراك ، لكننا نتساءل : اليس الخيال سابقا ً لكل معرفة موضوعية ؟
هذا لأن المعرفة الموضوعية هي نتاج متأخر في التاريخ : لقد تم التوصل اليه بعد عناء وفي مرحلة متأخرة من التاريخ . هذه المعرفة تتطلب للحصول عليها عملية تحليل نفسي لتنقيتها من الخرافات والاوهام الفطرية ومن ضروب الخيال.
هل هذا يعني أن كل خيال كاذب ؟ هل هو كما أشار باسكال Pascal : " سيد الخطيئة والظلال" ؟.
حسب نظرية باشلار Baschelard ، ينبغي التمييز بين الخيال الليلي (الحلم) الذي يبعدنا عن الواقع ، وبين الخيال النهاري : خيال العلماء الذي يشكل الفرضية التي تعتبر مرحلة هامة في المنهجية العلمية والتي تمهد للإكتشاف . هنا يتآزر العقل والخيال في خدمة العلم ، كما كان التخيل حتما ً في خدمة الفن ، وهذا معنى القول المشهور:
" لم يكن في العصور القديمة ما يوازي خيال إقليدس سوى خيال هوميروس "
التخيل والابداع: (الخيال الخلاق)
دأب علماء النفس التقليديون على التمييز بين تخيل مستعيد (imagination reprodutrice) بوصفه إعادة تمثل للصورة المدرَكة سابقا ً يكون شبيها ً بالتذكر . وخيال خلاق (imagination créatrice) يبدع الصور بشكل جديد يختلف بعدا ً وقربا ً عن الواقع .
والإبداع هو غير الاكتشاف : الاكتشاف هو كشف عن أشياء موجودة وهو يوسع آفاق معرفتنا ،أما الإبداع فهو خلق شيء جديد وإيجاد ما لم يكن موجودا ً . وحسب لالاند هو توليف جديد من الافكار ، وبخاصة تركيب جديد للوسائل في سبيل غاية معينة .
الإبداع فهو تعبير عن رفض الانسان لقيود الزمان والمكان ومحاولةً منه لتجاوزها والتفلت من قيودهما، وهوتطلع الإنسان الى إنجازات جديدة على الإصعدة المختلفة. وقد طور باستمرار الحضارة التي أوجدها ، فبدأ يهذب ويؤنس الطبيعة.
الإشكاليات المطروحة في هذا المجال تعبر عنها الأسئلة التالية :
-هل يمكن تفسير الابداع ؟ لماذا ينشط الابداع في زمن ويقل في زمن آخر؟ لماذا تكثر الاختراعات في مجتمعات وتقّل، بل تنعدم في مجتمعات أخرى . ما أثر العوامل الفردية والإجتماعية في عملية الإبداع ؟
إن تفسير الإبداع ليس بالأمر السهل لأن التفسير هو نفي الأصالة المطلقة . إلا أنه يمكننا معرفة العوامل المؤثرة فيه . فهو على علاقة بشخصية المبدع ومحيطه الاجتماعي .