عناصر الخيال الخلاق :
لا بد من توفر عوامل عدة حتى يتم الابداع ، وهذه أهمها :
أ - ثقافة المبدع : (الابداعية مع الاستمرارية)
الابداع هو تجاوز للحاضر وللموجود . ولا بد للمبدع أن يطّلع على احدث ما انتجته الثقافات وصولا ً الى عصره الحاضر. فتختمر عنده، وينفسح المجال أمامه لتجاوزها إذا توفرت فيه الكفاءة الذاتية والذكاء اللازم .
إن الابداع العلمي والفني رهن بمكتسب ثقافي سابق ، فلا خلق من عدم، في أي مجال كان. فليس من عبقري إلا وقف على أكتاف غيره ليرى أبعد ، بل إن أي عبقري هو ابن مدرسة فكرية، وثقافة عصر معين . فإن النظرية العلمية تبرز عندما تنضج بعد تحضير طويل ، فهناك علماء كانوا يعملون مستقلين في بلاد مختلفة وتوصلوا الى نظرية واحدة . فقد توصل "نيوتن" و "ليبنيز" في الوقت نفسه الى حساب التفاضل ، واكتشف "لافوازيه" و "برستلي" بشكل متزامن عنصر الاوكسجين . إن الابداعات الانسانية لا تنشأ من العدم ، بل إنها تتحرك فوق أمواج الإستمرارية ثم تندفع بعد ذلك الى الأمام.
ب – كفاءة المبدع وذكاؤه : (التخيل والفكر)
الإختراع هو فعل فكري ، فإن التخيل الخلاق يحتاج الى الذكاء الذي يدرك العلاقات بين الظواهر . ويبدو ذلك بوضوح في ابتكار الفرضيات العلمية التي تقوم على تفكيك النظريات القديمة من أجل إختراع نظريات وتفسيرات جديدة لظواهر الكون او عبر إقامة روابط وعلاقات بين ظواهر مختلفة في الطبيعة:
• إكتشف " لافوازييه" مماثلة رائعة بين التنفس والاحتراق
• إكتشف "باستور" العلاقة بين الامراض الميكروبية وعمليات التخمر.
• ويذهب الخيال الإبداعي في الشعر مذاهب شتى عبر اكتشاف علاقات غير مألوفة :
- "فيكتور هيجو" يرى في الصخرة المعممة بغيمة ، راعيا ً يعتمر قبعىة .
- ويشبّه "ابو علاء المعري" سواد قلبه المتشائم بسواد عينه.
- أما الاخطل الصغير فقد شبه شيخوخته في حفل تكريمه بالعود الذي ينقطع نغمه بانقطاع وتره...
إذن الخيال كما يقول "لا بلاس " هو فعل تقريب لأفكار كانت تبدو الى وقت ما متباعدة . فالابداع لا يتحقق من غير كفاءة ذاتية ومهارة شخصياة عند المبدع ، وبخاصة من غير ذكاء متوقد خلاق يجعله يكتشف علاقات لم يكتشفها أحد قبله ، كما يعجز عن اكتشافها من لا يتمتع بدرجة ذكاء عالية ، ومن لا دوافع ذاتية له .
ج-دوافع المبدع الذاتية والاجتماعية : (المصادر العاطفية :الميول والحاجات )
1- حاجات المجتمع : ترتبط الاختراعات التقنية مباشرة بالحاجات والميول وكانت إختراعات الإنسان الأولى امتدادا ً لحاجات التكيف البيولوجي عند الكائن الحي في وسطه الطبيعي ، وتتحفزطاقة الابداع أيضا ً أو تسكن حسب حاجات الوسط الاجتماعي: فقد كانت الحرب العالمية الثانية ميدانا ً خصبا ً لاختراع كثير من التقنيات العسكرية نظرا ً للحاجة الماسة إليها في تحقيق النصر على العدو أو في الدفاع عن الذات ..
2- الدوافع والميول : ( شخصية المبدع)
وهي عبارة عن رغبة واعية أو ميول لا واعية لإشباع حاجة فردية كانت أو اجتماعية . ويلعب اندفاع المبدع وشغفه وأهواؤه ، وحتى قلقه دورا ً في الابداع على أصعدة عدة . إن كل تخيل يجد جذوره في الميول والعواطف وحتى في الرغبات المكبوتة ، بحسب علماء التحليل النفسي . فهم يرون أن الاعمال الفنية التي تجسد الخيال ، تمثل تساميا ً لميول ورغبات ومشاعر مكبوتة . وكذلك الامر بالنسبة لجميع أشكال التخيل في أحلام النوم وأحلام اليقظة وكذلك في الألعاب ، فهي تعويض عن كبت لميول غير متحققة ..
يبقى السؤال عن طبيعة الابداع وحول دور العقل الباطن في عملية الاكتشاف . فهل الخيال ضروري لكل عملية خلق وإبداع وبالتالي فهو يلعب دورا ً إيجابيا ً وخلاقا ً ؟ أم أن الخيال هو سيد المغالط والاخطاء كما يشير "باسكال" ؟
دور الحدس والصدفة :
إن إكتشاف العلاقات غير المألوفة والذي يعتقد أنه يحصل غالبا ً بطريقة حدسية ، أي عبر ادراك مفاجئ لهذه العلاقات . بل إن في أصل أي اختراع حدسا ً منسوبا ً الى العاطفة أو العبقرية وأيضا ً الى الصدفة . وأن لمحات الحدس معروفة عند مشاهير العلماء . فإن قصة التفاحة عند "نيوتن" باتت مشهورة ، ويقول "بوانكاريه" إنه اكتشف دالاّت رياضية جديدة وهو يهم بالصعود الى سيارته . كما قال "فارديه" : لو علمتم كيف توصلت الى اكتشافاتي لجعلتموني في المجانين .
إنما يبقى السؤال حول طبيعة الابداع والخيال المبدع ، وحول دور العقل الباطن في عملية الاكتشاف :
يتحدث كثيرون عن إكتشافهم في الصباح الباكر الحل لمسألةٍ في (الرياضيات أو الفيزياء أو غيرهما ) كانت شغلهم لساعات المساء وربما في الايام السابقة.
علماء النفس يفسرون الأمر بالعمل الليلي للعقل الباطن ؛ بينما يرّد الفلاسفة التعقليون السبب الى صفاء الوعي ودينامية العقل في ساعات الصباح الاولى . وبعضهم يعتبر الابداع هو من انتاج اللاوعي والحدس والالهام غير المتوقع والصدفة ، لا من عمل العقل .
هذه الاكتشافات " الفجائية" هل هي فعلا ً كذلك ؟ أي أنها تحدث فجأة في أوقات معينة يسميها أصحابها ، وبخاصة الادباء والفنانون ، أوقات " الوحي" أو "الالهام" :
فأرخميدس مثلا ً ، اكتشف قانونه الفيزيائي المعروف فجأة ، بدليل خروجه الى الشارع وإطلاق عبارته الشهيرة "وجدتها "(Eureka) . ونيوتن اكتشف قانون الجاذبية الكونية فجأة بعد أن سقطت تفاحة على مقربة منه.
في الحقيقة ، إن أرخميدس ونيوتن ، وكثيرون غيرهما ، ما كانا ليكتشفا ، لو لم يبحثا طويلا ً قبل لحظة الاكتشاف وبهذا المعنى قيل :" كي نكتشف فجأةً من دون أن نبحث . ينبغي أن نكون بحثنا من دون أن نجد" . وهنا لا بد من التشديد على كون التفكير المطوّل في مشكلة ما شرطا ً ضروريا ً لأن يقفز الحل فيما بعد فجأة الى الذهن . فالتوقف عن التفكير في المشكلة يعطي العقل الواعي راحةً تنضج خلالها الفكرة وتنضج الامور وينجلي بعد ذلك الجهد الذهني الطويل، ويبرز الحل فجأة بشكل يجعلنا نعتقد مخطئين : بأنه وليد الصدفة وبلا عقلانية فعل الاختراع.
وفي هذا المجال قال آلان "Alain" : "لكي نجد من دون أن نفتش يجب أن نكون قد فتشنا طويلا ً من غير أن نجد"
إن الخيال المبدع ليس ثمرة عوامل وجدانية وقوى ورغبات مكبوتة في العقل ،بقدر ما هو تنظيم عقلي يقيمه الذكاء . إنه قدرة "العبقري" على إكتشاف علاقات جديدة(أو إختراع علاقات) بين عناصر الكون يعجز الانسان العادي عن اكتشافها.
آراء متضاربة في موضوع الخيال : (دلالة الخيال ، قيمته ووظائفه)
درجت العادة على التمييز بين نوعين من الخيال : الخيال السلبي والخيال الايجابي .
*الخيال السلبي هو ذلك النوع من الخيال الذي يقوم بصياغته صور وبرامج يتعذر تحقيقها وتجسيدها عمليا ً في الواقع إما لمخالفتها القوانين الكونة أو لانعدام الوسائل الكفيلة بتحقيقها.
يعتبر "باسكال" أن: "الخيال سيد الاخطاء والتشويه والبطلان "
أ- يعتبر باسكال أن المخيلة هي عدوة للعقل وللموضوعية والإدراك : فهي ترتبط مباشرة بالعاطفة وتشوه الإدراك الحسي فهي مصدر الكثير من الاوهام الإدراكية كما أنها تبعد العقل عن مساره الصحيح : فالتلميذ الذي سيستسلم لمخاوفه وأوهامه عن صعوبات الامتحان ،يقضي اوقاتا ً عصيبة بإمكانها ان تقود الى الفشل والى أمراض نفسية أو عضوية.
ب- الخيال يُبعد العالم عن الواقع الملموس الذي يكون مادة الإختبار العلمي والذي هو أساس لبلوغ المعرفة الموضوعية . زد على ذلك أنه يخلق عالما ًمن الوهم : فالشعراء والفنانون يخلقون عالما ً غريبا ً تسكنه الحوريات والأشباح والملائكة: شخصيات وهمية تبعدنا عن الواقع.
ت- للخيال نتائج وخيمة على الانسان : فهو يمثل هروبا ً من واقع صعب بدلا ً من مواجهته والاسترسال في احلام اليقظة وبناء قصور في الفراغ او الاستسلام للوسواس والهواجس . كل ذلك يخلق حالة من الفوضى في لاوعينا ما يؤثر سلبا ً على سلوكنا مع الآخرين وعلى حالتنا النفسية .
بالقابل يعتبر بودلير أن "الخيال هو ملك المواهب والكفاءات "
1- من الناحية المعرفية (في حالة الخيال العلمي) الخيال هو أساس العديد من الاكتشافات وهو يمنح العالم المبدع القدرة على ادراك العلاقات غير المرئية بين ظواهر متباعدة فتمكنه من اقتراح الحلول الممكنة للمشاكل النظرية . إن عبقرية العالم تتمثل في صوغ الفرضية التي تعتمد على الخيال .
2- من الناحية العاطفية والشعورية ، يستطيع الانسان بخياله ان يتمتع بحياته فلحظات الفرح سريعة الزوال ولكننا نستطيع خلق وتصور عالم مليء بالجمال والفرح.
3- إن الخيال هو فرصة للتحرر من قيود الزمان والمكان الحاضرين ورتابة المألوف وهو كما قال "سارتر" أفضل تعبير عن تحرر الانسان من عبوديته.
4- وأهم دور نجده في نظرية التحليل النفسي : ففي التخيل يستطيع المرء ان يحقق في اللاواقع ما عجز عن تحقيقه في الواقع أو قد يفسر بالتعويض او التسامي.
*توليف واستنتاج على الرغم من أن المخيلة غالبا ً ما تكون عدوة العقل إلا أنها ضرورية لكل عملية خلق وابتكار . لذلك علينا التمييز مع "باشلار" Bachelard" ما بين :
- مخيلة كاذبة وعدوة للعقل كما في الاحلام الليلية ، وأحلام اليقظة والهلوسة ..
- ومخيلة تساعد العالم في بناء معطيات علمية وإكتشاف نظريات وتقنيات جديدة ، فهي مرتبطة بالعقل ومساعدة له.
وكخلاصة : الخيال كما يقول باشلار هو ملكة تغيير الصور والإنتقال من الصورة الحاضرة أمامنا الى الاخرى الغائبة . إنه انفتاح وتجدد وانطلاق نحو آفاق جديدة وتعبير عن الطموح الذي يميز الانسان عن عيره من الكائنات . وعن تطلّعه الى تجاوز واقعه وتجاوز ذاته. لذلك يقوم الخيال بدور كبير في تقدم الإنسان وفي مسيرة الحضارة .
فهل يتم الاهتمام به وتنميته وتوجيهه نحو آفاق معرفية خلاقة؟ ...