الذكاء
إن ما يلاحظه الباحث في مسألة الذكاء هو تعدد تعريفاته من مفكر إلى آخر. إلا أنهم قد فشلوا جميعا ً في الاتفاق حول تعريف موحّد للذكاء . ففي ندوة شهيرة نشرت عام 1921 قدم ثلاثة عشر باحثا ً من علماء النفس ثلاث عشرة وجهة نظر مختلفة . فقد عرّفه البعض بأنه الكفاءة في التكيف وعرّفه آخرون بأنه : القدرة على التفكير المجرد وقال بعضهم : أنه الاستعداد للتعلم أما البعض الاخر فقال بأنه القدرة على صنع الادوات والتفنن فيها . وقد قدم الباحثون مزيدا ً من التعريفات المختلفة ومنها:
• الذكاء هو على القدرة الخلق والإبداع
• الذكاء هو القدرة على إكتشاف العلاقة بين الاشياء والربط بين الافكار
• الذكاء هو القدرة على حل المشكلات والمسائل المستجدة
• الذكاء هو القدرة على الافادة من الخبرة
• الذكاء هو القدرة على الربط بين الوسائل والغايات
ومن الطبيعي أن تتعدد تعريفات الذكاء لكونه ظاهرة نفسية عقلية معقدة ومركبة يتعذر ان يستغرقها تعريف واحد شامل و جامع . إذ أن للأشياء والمسائل وجوه مختلفة وتعدد الوجوه يفسح المجال لاختلاف الآراء والتعريفات . ولا بدّ لكل تعريف أن يصيب في وجه من الوجوه وأن يعبّر عن جانب هام من جوانب الذكاء . فالقول بأن الذكاء هو القدرة على التفكير المجرّد يلحظ بلا ريب خاصية هامة من خصائص الذكاء الانساني العليا. لكنه ينفي ضمنيا ً وجود نوع من الذكاء عند الحيوان ، وهذا ما يتعارض مع ما أكدته التجارب التي أجريت على الحيوانات ، لا سيما القردة ، وخاصة الشمبانزي منها. وقد أثبتت التجارب أن لدى هذه الحيوانات مهارات تستخدمها في حل بعض المشكلات البسيطة . وكذلك هو الحال بالنسبة الى التعريف الآخر الذي يحصر الذكاء بالقدرة على تصنيع الأدوات ، وهو بعد هام من أبعاد الذكاء وتجلياته . لكن إذا كان الذكاء يقتصر على صنع الآلات لتوجّب علينا أن نستبعد ونقصي من دائرة الذكاء الفنانين والشعراء والأدباء والفلاسفة والقادة التاريخيين وكوكبة كبيرة من المشتغلين في العلوم النظرية والانسانية لمجرد أنهم لا يصنعون الآلات ، إضافة الى ذلك ، فإن هذا التعريف للذكاء ينفي بدوره أي نوع من الذكاء عند الحيوان .
وفي ما خص التعريف الذي يحصر الذكاء في القدرة على التكيف ، فإنه غير كاف لأنه لا يلحظ الفارق النوعي بين التكيف عند الحيوان ذي الطابع الغريزي والتكيف عند الانسان الذي هو من نتاج الذكاء والذي هو تكيف واع ٍ خلاّق وإيجابي واستباقي . بينما عند الحيوان هو تكيّف آلي ، تلقائي وعفوي.
يخلص البعض إلى القول : بأن الذكاء في أشكاله العليا هو القدرة على إيجاد حلول مبتكرة للأوضاع الطارئة الجديدة واكتشاف المجهول وتطوير الذات والبيئة وافتتاح الكون . ..
1- الذكاء البشري في ثلاث مجالات :
أ- الذكاء العملي عند الانسان :
يبرز الذكاء العملي عندما يتعذر وجود عادات أو أي سلوك آلي متلائم مع الحالة التي يوجد فيها الانسان ، أو عندما تصطدم العادات بعقبات .
ويستطيع الإنسان بحكم ذكائه السيطرة على الحاضر بقصد التكيف, وعلى المستقبل من خلال التخطيط والتنبؤ ، وعلى الماضي من خلال استعادة الذكريات لصالح التكيف ؛ فإن هذه القدرات تمكن الانسان من إختراع الوسائل الضرورية في شؤون تكيفه الحيوي . وإن أي خلل يصيب عمله يدفعه الى إعادة النظر في مراحل العمل السابقة ومراجعة خططه؛ فالقائد العسكري الذكي يعدّل خطة عمله بحسب ما يستجدّ في ساحة القتال من وقائع ؛ والسائق الذكي يتحايل في القيادة لاجتياز أرض وعرة لتأمين سلامة سيارته ؛ كما يعالج الإنسان الذكي المفتاح في القفل لتليينه . وإن العادات تساعد في هذه الاحوال فعل الذكاء لأنها في الاصل أيضا ً فعله الخاص. فإن الملاءمة بين العادات والذكاء من شأنها أن تحقق سلوكا ً مرنا ً وذكيا.
ب- الذكاء النظري :
هو الذكاء التجريدي الذي يعالج مفاهيم ويدرك العلاقات المنعكسة ؛ وهو ما نسميه العقل . فالمفهوم فكرة مجردة أي جانب من الواقع معزول في تصور العقل ؛ وهذه الفكرة المجردة عامة مثل قولنا : الإحسان واجب إنساني ؛ والجريمة فعل منكر ؛ وكل إنسان فان ٍ . فهذه جملة مفاهيم لا علاقة لها بموجودات فردية . وعندما يترافق المفهوم مع صورة حسية ، فتكون هذه مجرد رمز للمفهوم ؛ أما المفهوم ذاته فهو الفكرة العامة المدرّكة بالعقل.
إن الذكاء المجرد هو القدرة على إدراك العلاقات العامة ووضع الاستنباطات على أساس مبادئها ؛ فهذا هو العقل الاستنباطي أو ما يسمى بالقياس الأرسطي .
وفي مجال العلوم الرياضية يبدو الذكاء قدرة على وضع المصادرات واستنباط نتائجها .وفي العلوم الاختبارية يكتشف العقل الفرضيات مستعينا ً بالخيال الخلاّق فيفكك النظريات السائدة ويخترع بُنى ومماثلات جديدة ؛ فقد افترض توريشللي أن الضغط الجوي مماثل لعمود هواء يضغط على سطح الأرض كما تفعل الأجسام الصلبة . وكذلك اكتشف " لافوازيه" بواسطة برهان المماثلة أن التنفس هو عملية إحتراق من دون لهب . وافتراض "كلودبرنار" وجود عضو يختزن السكر مثل ما يحصل في حبة البطاطا التي تختزن النشويات .
ومن خصائص الذكاء النظري أيضا ً الاستقراء أي الانتقال من الوقائع الجزئية الى القوانين أي الحقائق العامة ؛ فالتعميم صفة أساسية من صفات العقل البشري .
وفي المجال الفلسفي يبلغ التجريد ذروته حيث يدور البحث في الحقيقة الإلهية وطبيعة النفس ومصيرها . ويصل التجريد الفلسفي الى تجاوز التجريد الرياضي كما يقول أفلاطون .
وباختصار، فإن العقل العلمي الذي يشكل علاقة ولو محدودة بين الحيوان والانسان يترك فسحة واسعة للعقل النظري الخاص بالإنسان ؛ فهو الكائن الوحيد الذي يفكر ويعي أنه يفكر والذي يدرك وجود الله ويتفكر في حقيقته؛ فهو كائن ينعكس فكره في ذاته ، ويتسامى أيضاً على هذه الذات ليعرف من خلالها ربه .
ج-الجانب التقني من الذكاء البشري :
عندما يعرف الانسان قوانين الطبيعة بالطريقة الإختبارية ، والقوانين الرياضية بالطريقة الافتراضية الاستنتاجية ، فإنه يتمكن من اكتشاف تقنيات وصنع أدوات وآلات جدّ معقدة . إن الانسان هو عالم يكتشف ، ومهندس يصمم ، وتقني ينفذ. ولذلك تطور العالم الإنساني وسوف يستمر في التطور بعكس العالم الحيواني الثابت والمحكوم بجمودية الغريزة.
كما أن الذكاء التقني يخترع تقنيات توفر للعالم وسائل تسهل عمله العلمي ؛ والمختبر
بين الغريزة والذكاء:
أ-أوجه التمايز (الإختلاف):
1- الغريزة :هي مهارة سلوكية فطرية , تظهر بطريقة آلية وكأنها مهيأة مسبقاً؛(الصوص يخرج من تلقاء نفسه من البيضة، كما أن ما من أحدٍ كان قد علّم النحل كيف يصنع العسل , وكأن هذه الأعمال محفورة في أنسجتها فيتحرك الحيوان آلياً دون جدال)
-أما الذكاء يستلزم العمل الذهني والتفكيري , ويستلزم محاولات وأبحاث وتعلم.
2- الغريزة جامدة , لاتتغير أي لا تعي الأخطاء ولا الزلاّت ولا تحاول تطوير ما تصنعه (إن الطيور من الصنف نفسه ما زالت تبني أعشاشها على النحو الذي عرفته منذ آلاف السنين) .
أما الذكاء فهو في تطور مستمر من خلال أعمال البحث والمحاولات وعمل دؤوب لتحقيق الجودة والإتقان.
3- الغريزة :محدودة , محصورة ومختصة ؛(العنكبوت لا تعرف إلا كيف تنسج بيتها والخلد أيضاً معرفته محدودة بكيفية حفر الأرض).
أما الذكاء :فهو أداة كونية , حرّة تصلح في كل الحالات والمناسبات (ديكارت).
4- الغريزة صلبة غيرطيّعة : الحيوان يجهل الهدف وكأنه أعمى , لذا نرى النحلة , خارج القفير, تتصرف كالذبابة فهي لا تعرف كيف تخرج من قنينة مقلوبة.
أما الذكاء يتميز بالمرونة والليونة , فهو يبني ويفكك على هواه , يضع لنفسه أهدافاً ويبتكر لبلوغها وسائل ومناهج.
5- الغريزة : تستخدم أدوات طبيعية : أدواتها هي أعضاؤها.
أما الذكاء فهو يصنع الأدوات فالإنسان بواسطة ذكائه تحول من باحثٍ عن غذائه إلى صانع لغذائه.
6- الغريزة لا واعية بينما الذكاء حالة من الوعي التام...
ب-أوجه التقارب بين الذكاء والغريزة:
لغاية القرن التاسع عشر إكتفى علماء النفس التقليديون بإبراز أوجه التمايز بين الغريزة والذكاء , إلاّ أن علم النفس الحديث رفض إقامة هذا الحد الفاصل بينهما فقد أورد "فيود" أن هناك مساحات موجودة تمتد بين الغريزة والذكاء .
الغريزة والذكاء يترافقان ، لأنهما متكاملان . فالسلوك الإنساني يمكن أن يمزج مظهراً غرائزياً بمظهر ذكي , فيكون الذكاء إمتداداً للغريزة بدلاً من أن يتناقض معها . فكثير من الغرائز يعمل الإنسان على إشباعها بذكائه , فيظهرها بمظهرٍ إجتماعي إنساني لائق (إشباع الغريزة الجنسية , وغريزة حب البقاء...) وقد وضع ذكاء الإنسان الشرائع والقوانين التي تنظم الزواج ...والتفنن في طرق إعداد الأطعمة ووضع قواعد آداب المائدة , كل ذلك لإشباع حاجاته للغذاء بطريقة إنسانية لائقة ليتميز بها الإنسان عن السلوكيات الغرائزية الحيوانية ...
الذكاء والغريزة ------الذكاء الحيواني :راجع كتاب (الفلسفة) صفحة 53و54و55.
يتبع في الجزء الثاني .................